الجمعة، 20 أبريل 2012

التلاعب في الكلمات

التلاعب في الكلمات


 
لم نترك نحن العرب مجالا من مجالات الحياة إلا وتلاعبنا فيه بالكلمات، كي نخفي ما نفكر به أحياناً، أو لنخفي حقيقة أو نهرب منها أو نسترها أو نقلبها أو نقفز عنها؟. أصحيح أن لغتنا العربية هي التي تساعدنا على هذا التلاعب، أم أننا نحن الذين نساعدها على ذلك؟. وإليكم بعضاً من المجالات التي تم التلاعب فيها في الماضي والحاضر:


تلاعبنا بالكلمات في محطاتنا الإذاعية!

 

بدأت الكثير من الإذاعات تأخذ تمويلها من الأغنياء، وتسوق نفسها للفقراء بصبغة وطنية أو دينية أو قطرية. وأصبحت تحل مشاكل الناس على الهواء مباشرة. وكأن مشاكل الناس تحل بالكلام. والأدهى من ذلك أن المذيع يعرض نفسه حلالاً للمشاكل، التي عجزت الحكومات عن حلها، أو أنه يُشغل الناس بمواضيع جانبية، لا تغن ولا تسمن من جوع . ومنهم من تعلم صناعة الكلام، والتلاعب فيه، فقد يقلب الحق باطلاً إذا أراد!.
في أحد الأيام بينما كنت أستمع إلى إحدى هذه المحطات الإذاعية، وهي تحل مشاكل الناس على الهواء مباشرة. اتصلت بالمذيع سيدة، عرّفت نفسها بـ "أم العبد"، تشكو حالها فقالت: أنا اسمي أم العبد، إنيأحبك في الله يا أخي فلان. لكن عندي مُشكلة، أتمنى عليك حلها. ردّ عليها المذيع قائلاً: أقسم بالله أنني أحبُك في الله يا أم العبد. تفضلي أنت على الهواء مُباشرة واعرضي مشكلتك!.
قالت: ابنتي متزوجة وتقيم مع زوجها في السعودية، وعندما حضرت إلى عمّان، ذهبتُ معها إلى مبنى الجوازات العامة لتجديد جواز سفرها الذي كان مُلصقاً عليه صورة شخصية لها وهي مُحجّبة. وعندما أعطيتُ المُوظف صورة مثلها، رفضها بحجة أن الصورة الشخصية الجديدة لا تكشف شعرها. وطلب منها أن تحضر صورة غيرها تظهرها غير مُحجبة. أحضرتُ له الصورة التي أرادها، وجدّدنا جواز السفر. وهنا وقعنا في مُشكلة جديدة، ألا وهي أن السعودية تصرّ على أن تكون الصورة الملصقة على الجواز تظهرها مُحجبة فما العمل؟.
رد عليها المذيع قائلا: أختي في الله أم العبد. أرجوك أن تحضري مع ابنتك إلى جبل عمان، كي تتعرفي على ذلك الموظف، الذي خرج عن عاداتنا وتقاليدنا وديننا، وبعد أن تتعرفي عليه، نعرضه على مديره، ليتخذ في حقه أقسى العقوبات، وسيكون إن شاء الله عبرة لمن لا يعتبر. وتابع قائلاً: الله أكبر! وصلنا لهذه الدرجة من الفسق والفجور، وأصبح موظفونا يطلبون من نسائنا تعرية رؤوسهم؟!.
وذهب المُذيع إلى مُدير الجوازات العامة قبل أن تصل أم العبد وابنتها، وطرح عليه المُشكلة، فقال له المدير: فتاة كانت مُحجبة في السعودية، وعندما راجعت الموظف في عمان، كانت مكشوفة الرأس، وتريد منه أن يضع لها صورة مُحجبة على جواز سفرها. هذا يُخالف الواقع، ويُسبب لها مشاكل، هي في غنى عنها في المطارات ومراكز الحدود، فهم يُصرّون في هذه الأماكن على مُطابقة الصورة للواقع الموجود أمام الموظف!.
سكت المذيع ولم ينطق بكلمة واحدة، لكنني لا أعلم إذا كانت أم العبد قد حضرت إلى جبل عمان أم لا، وإذا كانت قد حضرت، ماذا قال لها المذيع؟.
سأكون شجاعاً، وأعترف أنني انفعلتُ مع الموقف، وأدنتُ الموظف قبل أن أسمع أقواله، وأنا الذي أعتبر نفسي عقلانياً. فما بالك لو سمع هذه القصة، أحد المُتطرفين من الذين يُدخلون الناس الجنة، ويطردونهم منها على السمع؟.

تلاعبنا بالكلمات في صحفنا المحلية!

 





يُذكرني هذا الموقف، بموقف مُشابه له بعد أحداث حرب الخليج مباشرة، بينما كنت أسير في شارع "سقف السيل" في مدينة عمّان. قرأت عُنواناً لصحيفة كُتب بالخط العريض "انقلاب في الكويت" وتحته بالخط العادي راجع صفحة (7). وكانت الأحداث وقتها ساخنة، والوضع لا يحتمل مثل هذا الحدث الكبير. اشتريت الجريدة مُتلهفاً، وفتحت على الصفحة المطلوبة، وإذا بالعنوان قد تغير ليصبح "انقلاب شاحنة في الكويت"!.






تلاعبنا بالكلمات في كتب التاريخ!




 
والتلاعب بالكلمات تعلمناه صغاراً، ولم يُعلمنا إياه الاستعمار ـ كما نحب دائماً أن ندّعي ـ فقد علمونا في المدارس: أنالخليفة المأمون كان يُعطي مؤلف الكتاب وزنه ذهباً!.لكنهم لم يقولوا لنا " يجب أن يكون هذا الكتاب في مدح السلطان"!.

إني لأسأل اليوم ماذا لو صدر كتاب معارض لخليفتنا؟ هل سيعطي صاحبه ذهباً أم يقطع لسانه كما حدث مع عبدالحميد الكاتب، عندما انقلب العباسيون على الأمويين فاستدعوه وقالوا له: حكمنا عليك بقطع لسانك، فاحتج المؤلف الكبير على هذا الحكم الجائر وقال لهم: أنا لست أموياً كي تقطعوا لساني، فقالوا له: صحيح أنك لست أموياً لكنك لم تمدحنا فأنت أمويّ الولاء!.
لقد استهجن الكثير منا عندما سمعوا الرئيس الأمريكي" بوش الأب" في حرب الخليج وهو يقول: إن من هو ليس معي فهو ضدي، ونسوا أو تناسوا أننا أول المكتشفين لهذا المبدأ، وأول من استخدمه في التاريخ!


تلاعبنا بالكلمات في مجاملتنا للحكام!

 




لو أنك سمعت محكوماً يحاور حاكمه لسمعت العجب، فتجده يقول للحاكم قبل أو بعد أن يكلمه: أدام الله ظلك يا مولاي! أي أنه يطلب من الله أن يحجب الموت عنه، وهو يعلم والحاكم أيضاً يعلم، بأن الموت لا يحجب عن أحد!. 






تلاعبنا بالكلمات عند تسمية الأشياء!


 


إننا نتهرب من تسمية الأشياء بأسمائها، فنقول عند الموت: اذكروا محاسن موتاكم! ولا نقول بأننا نكذب على الله وعلى الناس بوصف موتانا بما ليس بهم!.

تلاعبنا بالكلمات حتى في حب الوطن!

 


عندما نريد أن نمدح أحداً فنقول: لقد بذل الكثير من أجل هذا الوطن، وضحنا المبتدأ وأبهمنا الخبر!.

تلاعبنا بالكلمات حتى في الفتاوي الشرعية!


ولم تسلم فتاوينا من التلاعب أيضاً وإليكم بعضاً منها:

- ماذا لو ضحكت المرأة في صومها ؟

الجواب : بطل صوم يومها! .

( يقال : ضحكت المرأة أي حاضت ) .

- هل يجوز للرجل أن يضحي بذبح خاله؟

الجواب : نعم فذبح الخال جائز!

( الخال : البعير الضخم )

- هل يجوز للوليد أن يذبح أمه؟
الجواب: جائز شرعاً .
( أم الوليد : كنية الدجاجة ) .






وتلاعبنا بالكلمات أيضاً في الشعر العربي!


ولم يسلم الشعر أيضاً من تلاعبنا، فهذه قصيدة
، تُقرأ من اليمين مدحاً، ومن اليسار ذماً، نظمها "إسماعيل بن أبي بكر المقري"، وإليكم بعضاً من أبياتها:


طلبوا الذي نالوا فما حُرمــــوا رُفعتْ فما حُطتْ لهـــم رُتبُ

وهَبوا ومـا تمّتْ لـهم خُلـــــقُ سلموا فما أودى بهــم عطَبُ

جلبوا الذي نرضى فما كَسَدوا حُمدتْ لهم شيمُ فــمـــا كَسَبوا 

وهذه قصيده مدح إذا اكتفيت بقراءة الشطر الأول من كل بيت منها تصبح قصيدة هجـــــاء:

إذا أتيت نوفـــــــل بن دارم
امير مخزوم وسيف هاشم

وجــدته أظلم كل ظــالـــــم
على الدنانير أو الدراهـــــم

وأبخل الأعراب والأعـاجم
بعـــرضه وســره المكـاتـم

لا يستحي مـن لوم كل لائـم
إذا قضى بالحق في الجرائم

ولا يراعي جانب المكارم
في جانب الحق وعدل الحاكم
جميل عبود


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يسعدني وضع بصمتك هنا